فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} أي أقبل عبادة من عبدني؛ فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النُّعمان بن بَشير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم» فسُمِّيَ الدعاء عبادة؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسمّاه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى لَيث عن شَهر بن حَوْشَب عن عُبادة بن الصّامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أُعْطِيَتْ أمتي ثلاثًا لم تُعط إلا الأنبياءَ كان الله إذا بعث نبِيًّا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبيّ قال له ما جعل عليك في الدِّين من حَرج وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدِّين من حرج وكان الله إذا بعث النبيّ جعله شهيدًا على قومه وجعل هذه الأمة شُهداءَ على الناس» وكان خالد الرَّبَعِيّ يقول: عجبت لهذه الأمة في {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شَرْط. قال له قائل مثل ماذا؟ قال مثل قوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فها هنا شَرْط، وقوله: {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} فليس فيه شَرْط العمل، ومثل قوله: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فها هنا شَرط، وقوله: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ليس فيه شرط. وكانت الأمم تقرع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياءُ لهم ذلك. اهـ.
سؤال: لم قال تعالى: {فإني قريب} ولم يقل: فقل لهم إني قريب؟
الجواب: إنما قال تعالى: {فإني قريب} ولم يقل: فقل لهم إني قريب إيجازًا لظهوره من قوله: {وإذا سألك عبادي عني}، وتنبيهًا على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولَّى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهًا على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء. اهـ.

.قال الماوردي:

وفي قوله تعالى: {أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ} تأويلان:
أحدهما: معناه أسمع دعوة الداعي إذا دعاني، فعبر عن السماع بالإجابة، لأن السماع مقدمة الإجابة.
والثاني: أنه أراد إجابة الداعي إلى ما سأل، ولا يخلو سؤال الداعي أن يكون موافقًا للمصلحة أو مخالفًا لها، فإن كان مخالفًا للمصلحة لم تجز الإجابة إليه، وإن كان موافقًا للمصلحة، فلا يخلو حال الداعي من أحد أمرين: إما أن يكون مستكملًا شروط الطلب أو مقصورًا فيها:
فإن استكملها جازت إجابته، وفي وجوبها قولان:
أحدهما: أنها واجبة لأنها تجري مجرى ثواب الأعمال، لأن الدعاء عبادة ثوابها الإجابة.
والثاني: أنها غير واجبة لأنها رغبة وطلب، فصارت الإجابة إليها تفضلًا.
وإن كان مقصورًا في شروط الطلب لم تجب إجابته، وفي جوازها قولان:
أحدهما: لا تجوز، وهو قول من أوجبها مع استكمال شروطها.
والثاني: تجوز، وهو قول من لم يوجبها مع استكمال شروطها. اهـ.

.قال الألوسي:

{أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة {إِذَا} لا كليًا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام: 1 4] ولا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى: لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أرجى للإجابة لاسيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة والكيفية المشهورة، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقًا وقد تتخلف إلى بدل، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها» وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. اهـ.
قال ابن عرفة: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} فيه سؤالان:
الأول: ما الفائدة في زيادة لفظ {دعوة} مع أنه مستغنى عنه؟
قيل له: إنّه إذا أجاب الدّعوة الواحدة فأحرى أن يجيب الدّعوات المكررة المؤكدة؟
فقال: العكس أولى لا، إذ لا يلزم من أجابة الدعوة الواحدة إجابة الدعوات.
قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنّ أجاب تطلق على الإجابة بالموافق والمخالف واستجاب خاص بالموافق، فلو قال: أُجِيبُ الدّاعِي، لأوهم العموم، وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} صريح في الإسعاف بالمقصود، كما نقول: أجيب طلبة فلان وأجيب دعوته، أي أسعفه بمطلوبه.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله: {إِذَا دَعَانِ} مع أنّه أيضا مستغنى عنه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأنّ الدّعاء على قسمين دعاء بنية وعزيمة، والداعي مستجمع لشرائطه، ودعاء دون ذلك، فأفاد قوله: {إِذَا دَعَانِ} إجابة الداعي بنية وحضور. وذكروا أنّ الدّعاء على أقسام فالمستحيل عقلا والمحرم لا يجوز، وكذلك الدعاء بتحصيل الواجب لأنه من تحصيل الحاصل، وكذا قالوا في قوله تعالى: {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي المعتدي في الدعاء بالمستحيل عقلا كالدعاء بالجمع بين النقيضين وأما المحال في العادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء فمنهم من أجازه ومنهم من منعه.
والمختار عندهم أنه إن كان في الداعي أهلية لذلك وقابلية له جاز له الدعاء وإلا لم يجز كدعاء شيخ ابن ثمانين سنة أن يكون فقيها عالما، ودعاء رجل من سفلة الناس بأن يكون ملكا. اهـ.

.قال ابن القيم:

وهاهنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر لم يقع سواء سأله العبد أو لم يسأله.
فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلابد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل وإن كان الولد قد قدر لك فلابد منه وطأت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ وإن لم يقدر ذلك لم يكن فلا حاجة إلى التزويج والتسري وهلم جرا فهل يقال هذا عاقل أو آدمي بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وتكايس بعضهم وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق.
وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه وتعالى أمارة على قضاء الحاجة فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد انقضت وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سببا ألبته ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء بل أضحكوا عليهم العقلاء.
والصواب: أن هاهنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجردا عن سببه ولكن قدر سببه فمتى أتي العبد بالسبب وقع المقدور ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال وهذا القسم هو الحق وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له.
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان أعظم جنديه وكان يقول للصحابه: «لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء» وكان يقول: فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة فإن الله سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ}.
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه.
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد: أثرا «أنا الله لا إله إلا أنا إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد».
وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه.
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له كقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وهذا كثير جدا وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} ونظائره وتارة يأتي بلام التعليل كقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا كقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وكقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} أي كراهة أن تقولوا وتارة يأتي بفاء السببية كقوله تعالى: {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها} وقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} ونظائره وتارة يأتي بأداة لما الدالة على الجزاء كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ونظائره وتارة يأتي بإن وما علمت فيه كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وقوله في ضد هؤلاء: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وتارة يأتي بلو الدالة على الشرط كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}.
وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.
ومن تفقه هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة فيكون توكله عجزا وعجزه توكلا بل الفقيه كل الفقيه الذي يرد القدر بالقدر ويدفع القدر بالقدر ويعارض القدر بالقدر بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا ولا يبطل بعضها بعضا فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ورعاها حق رعايتها والله المستعان.
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه:
أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير وتكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم وما جربه في نفسه وغيره وما سمعه في أخبار الأمم قديما وحديثا.
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ثم السنة فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما حتى كأنك تعاين ذلك عيانا وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق وأن الرسول حق وأن الله ينجز وعده لا محالة فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر. اهـ.